recent
أخبار ساخنة

الرمزية التركية: أسرار الأشجار والزهور في إسطنبول

الرمزية التركية: لغة الأشجار، الزهور، والمقابر التي تروي حكايات الماضي في إسطنبول


الرمزية التركية: أسرار الأشجار والزهور في إسطنبول


بين أزقة إسطنبول التاريخية ومساجدها الشامخة، تكمن حكايات صامتة لا ترويها الكتب فحسب، بل تنسجها الطبيعة نفسها. لـ تركيا تاريخ غني يمتد عبر قرون، يتجلى في كل زاوية من زواياها، من القصور والنوافير إلى آلاف المساجد والمقابر التي تنتشر في أنحاء البلاد. ولكن خلف الأبنية الشاهدة، وخارج الكلمات المكتوبة، هناك عالم آخر من المعاني الخفية في الرمزية التركية، تُعبَّر عنه بجمالٍ فريد من خلال لغة الأشجار، الزهور، والرموز الإسلامية والعثمانية التي تزين حتى أصغر المقابر.


أشجار الدلب: رمز العظمة، السيادة، وحلم عثمان الأول


أشجار الدلب: رمز العظمة، السيادة، وحلم عثمان الأول
قبر في اسطنبول


منذ الوهلة الأولى، ستلاحظ أشجار الدلب الشرقية العملاقة (بالتركية: çınar ağacı) في حدائق مجمعات المساجد الكبرى والميادين العامة في تركيا. هذه الأشجار ليست مجرد زينة، بل هي رموز حية تحمل معاني عميقة في التقاليد التركية، ترمز إلى العظمة، الديمومة، التفوق، والسيادة.

في العصور الغابرة، كان العثمانيون يزرعون شجرة دلب قرب الماء في كل أرض يفتحونها لتأكيد حقهم في الحكم، وتظل هذه الشجرة تُزرع حتى يومنا هذا عند بناء مسجد كبير. تتمتع أشجار الدلب بعمر مديد يمتد لمئات السنين، وحتى بعد موتها، تُترك جذوعها في مكانها وتُحمى، لتظل شاهدًا صامتًا على تاريخ قديم، حتى لو نُسي الشخص أو الحدث الذي كانت ترمز إليه.

حلم يؤسس لإمبراطورية: اكتسبت أشجار الدلب مكانتها المرموقة في العصر العثماني من حلم أسطوري يُنسب إلى عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانية. يُروى أن عثمان، وهو أمير شاب، كان يعاني من حزن عميق لرفض الشيخ أديب علي، معلمه وحكيمه، تزويجه من ابنته "مال خاتون" بسبب اختلاف مكانتهما الاجتماعية.


شجرة الدلب عمرها 500 عام في أيوب سلطان
شجرة الدلب عمرها 500 عام في أيوب سلطان


في إحدى الليالي، وبعد ست ساعات من تلاوة القرآن الكريم، غلبه النعاس وهو يمسك بالمصحف. رأى في منامه القمر (الذي رمز لمال خاتون) يرتفع من صدر الشيخ ليغوص في جسده ويختفي. وبدلًا من القمر، نمت شجرة دلب عظيمة، ألقت بظلها الوارف على الأفق، قبل أن تغطي العالم بأسره. تحت هذه الشجرة، رأى عثمان جبالًا وغابات، أنهارًا وسفنًا، حقولًا خضراء، وينابيع تتدفق عبر حدائق غناء مليئة بأشجار السرو والورود. تألقت الوديان بمآذن المساجد التي ترنّم بالدعاء، بينما حلّقت الطيور على الشجرة، بأوراقها التي تشبه السيوف، وملأتها بألحانها.

وفي مفاجأة الحلم، هبّت ريحٌ قوية حوّلت أطراف الأوراق نحو مدن العالم الكبرى، وعلى رأسها القسطنطينية (إسطنبول حاليًا). بدت المدينة كالألماسة المرصّعة بين بحرين وقارتين، خاتمًا يليق بإمبراطورية عظيمة. رأى عثمان نفسه يضع هذا الخاتم في إصبعه ثم استيقظ.

عندما روى عثمان حلمه للشيخ أديب علي، فسّرها الشيخ كفأل خير، مبشرًا إياه بشرف وسلطان عظيمين، وأن الله سيمنحه وذريته الحكم، وأن ابنه سيحكم العالم أجمع. وبذلك، زال اعتراض الشيخ، وبارك زواج عثمان من مال خاتون، لتتوالى فصول تأسيس الإمبراطورية العثمانية.

أشجار الدلب الشاهدة في إسطنبول وتركيا: لا تزال العديد من أشجار الدلب التي يبلغ عمرها قرونًا تقف شاهدة على التاريخ في إسطنبول ومناطق أخرى. ففي فناء مسجد عتيق والدة في أوسكودار، تنمو شجرة دلب كبيرة على جانبي النافورة التي يتوضأ فيها المصلون. وعلى مضيق البوسفور، تستمد حدائق شاي تشينارالتي اسمها من شجرة دلب ضخمة يعود عمرها إلى أكثر من 780 عامًا، والتي تُعنى بها المدينة بعناية فائقة باستخدام دعامات معدنية وتقنيات خاصة لحمايتها. كما يمكنك العثور على هذه الأشجار الأيقونية في أيوب، ساحة بايزيد، بيكوز، وإميرغان.

وإذا اتجهتِ إلى بورصة، المدينة القريبة، ستجدين أن أشجار الدلب قد أصبحت رمزًا للمدينة، حيث تُرقّم كل شجرة وتُسجل لدى دائرة الأشغال العامة. ومن القصص الملهمة التي تُظهر مكانة هذه الأشجار، قصة أتاتورك في يالوفا، عندما اجتاحت أغصان شجرة دلب جدران قصره، فأمر بنقل المبنى خمسة أمتار شرقًا بدلًا من قطع الشجرة، ليُعرف القصر اليوم باسم "يوروين كوشك" أو "القصر المتحرك".


أشجار السرو: شجرة الحياة وحارسة المقابر


أشجار السرو و الرموز التركية


بجانب أشجار الدلب، تُقدر الثقافة التركية أيضًا أهمية أشجار السرو، التي تُزرع بكثرة في المقابر التركية. في العصور القديمة، كانت أشجار السرو، التي تتخذ شكل المآذن، تُعتبر "شجرة الحياة"، رمزًا للوفرة والغنى. تمتد جذورها عميقًا في الأرض، ويرتفع جذعها القويّ نحو السماء، مشكلةً ثالوثًا يُثير الميلاد، الحياة، والرغبة في بلوغ السماء.

كونها دائمة الخضرة، ترمز أشجار السرو إلى الخلود، ولذلك غالبًا ما تُزرع في المقابر. ولكن هناك أيضًا سبب عملي لذلك: فراتنج السرو عطري للغاية ويحتوي على مواد كيميائية تُخفي رائحة الموتى، وقد استخدم المصريون القدماء خشب السرو في عمليات التحنيط.

رموز المقابر الصامتة: في مقابر إسطنبول، تحمل العديد من شواهد القبور العثمانية، وخاصة تلك التي تخص النساء، نقوشًا لشجرة الحياة وشجرة السرو. فوجود شجرة سرو على شاهد القبر يدل على الخضوع لإرادة الله. أما نقش شجرة سرو داخل أخرى، فيرمز إلى وفاة امرأة أثناء ولادة مولود أنثى. وعندما تهب الرياح على أغصان أشجار السرو في المقابر، يُعتقد أن حفيف أوراقها يُشبه صوت درويش في الصلاة ينطق بكلمة "هو" أي "الله".

بدًا عن كونها أماكن كئيبة، تُعدّ المقابر التركية، وخاصة في إسطنبول، واحات أنيقة تُصطف على جانبيها الأشجار، مثالية للتأمل المنفرد، وتعجّ بالرسائل والرموز المكتوبة على شواهد القبور. شواهد القبور القديمة كانت تتخذ شكل عمود بسيط منقوش عليه كتابات تركية عثمانية، تعلوه عمامة حجرية للرجال وزهرة للنساء. ومع مرور الوقت، أصبحت قبور النساء أكثر زخرفة بزخارف نباتية وأقراط وقلائد، بينما زُيّنت قبور الرجال بأغطية رأس تُشير إلى مهنتهم ورتبتهم.


رموز القبور التركية



الزهور والرموز: لغة الحب والحياة والقدر

في العهد العثماني، كان للزهور والنباتات والرموز معانٍ خاصة. أشهرها على الإطلاق هي زهرة التوليب. اعتبرها العثمانيون زهرة مقدسة لأن كلمة "الله" وكلمة "لاله" (lale، بالتركية تعني زنبق/توليب) تحملان القيمة العددية نفسها في نظام "إبجد" (EBCED) الحسابي، وهو 66، وهو عدد "الله". لذلك، ترمز زهرة التوليب على شاهد القبر إلى وحدانية الله. وعند تصويرها مقلوبة، دلّت على أن صاحبة القبر فتاة صغيرة ماتت غير متزوجة.

الورود: غالبًا ما تظهر الورود على شواهد القبور العثمانية أيضًا. كانت تُزرع في الأصل في حدائق خاصة بالسلطان، مثل حديقة جولهانة الشهيرة. الوردة المقلوبة كانت تُشير إلى نفس دلالة التوليب المقلوبة، لكن عندما تُوضع بشكل مستقيم، كانت ترمز إلى حب النبي محمد. أما برعم الورد المكسور، فكان يُشير إلى وفاة إحدى أفراد الأسرة الإناث. وإذا كانت المرأة مخطوبة عند وفاتها، كان يُنحت فستان زفاف على شاهد قبرها.


رموز الزهور


رموز أخرى تروي السيرة الذاتية: استُخدمت رموز أخرى عديدة لرسم سيرة ذاتية للمتوفى:

  • العنب: يدل على الثروة والوفرة، وتقوى المسجد.
  • أشجار النخيل: ترمز إلى الصعود إلى السماء.
  • الخنجر: يشير إلى أن صاحبه قُتل أو مات شابًا نتيجة وباء.
  • شجرة الحياة: تدل على أن المتوفى من أصول أرستقراطية.
  • عجلة الحظ: تُشير إلى أن الشخص قد عانى من عذاب.


ختامًا: دعوة لاستكشاف إسطنبول بعمق

إن فهم هذه الرمزية التركية الغنية يضيف بعدًا فريدًا لرحلتك إلى إسطنبول. لم تعد مجرد مدينة تزور معالمها، بل أصبحت كتابًا مفتوحًا، كل شجرة وزهرة وقبر يحكي قصة. لذا، في زيارتك القادمة، تجولي في شوارع إسطنبول بعينين جديدتين، ودعي هذه الرموز الصامتة تحدثكِ عن تاريخ وحضارة عريقة.


اقرأ أيضًا:

زهرة التوليب في الفن التركي


google-playkhamsatmostaqltradent